تاريخ سوريا الحديث حافل بالمواقف الكفاحية ضد القهر، وفيه الكثير من التضحيات البطولية ضد الاستعمار، وقد شارك الكرد السوريون بإخلاص في كل تلك المواقف، وقدّموا التضحيات من دمائهم وأموالهم وأملاكهم، بل تذكر المصادر الموثوقة أن المواطن الكردي السوري (مُحُو إيبو شاشو)، من سهل (جُومَه) في منطقة عفرين، هو أول من أطلق الرصاصة الأولى ضد الاستعمار الفرنسي.
وإبراهيم هنانو من أبرز القادة الذين ساهموا في قيادة النضال ضد الاستعمار الفرنسي، وكان قائد الثورة السورية في الشمال، وهو من المجاهدين الشجعان، وهبه الله قوة الجَنان، وطلاقة اللسان، ومحبة للحرية لا حدود لها.
فمن هو هذا القائد المقاتل؟!
أصله .. ونشأته
ولد إبراهيم بن سليمان آغا بن محمد هنـانو سنة (1869 م) في قرية (كَفْر تَخـاريم) الواقعة غربي حلب والتابعة لقضاء (حـارم)، وآل هنانو أسرة عريقة في الجاه وكرم الأصل، وثمة من نسب أسرة إبراهيم هنانو إلى عشيرة (رَشْوان) الكردية، لكن الأستاذ الشاعر عبد الله يوركي حلاّق صاحب (مجلّة الضاد) أكّد في كتابه (الثورات السورية الكبرى في ربع قرن) أن أسرة هنانو تنتمي إلى قبيلة بَرازي Berazieh الكردية؛ وهذا هو الأرجح، نظراً لكثرة انتشار الأسر المنتمية إلى هذه القبيلة في شمالي سوريا.
وقبيلة بَرازي كثيرة العدد، تتوزّع في جنوب شرقي تركيا وفي شمالي سوريا، وهي في الأصل مؤلفة من اتحاد عشائر، وكان تعدادها في بدايات القرن العشرين حوالي عشرة آلاف خيمة (عائلة)، ويضم هذا الاتحاد عشائر: كَيتْكان Keytkan، شَيْخان Shykhan، أُوكْيان Okian، شَدادان Shadadan، على دِنْلي Alidinli، مَعافان Maafan، زَرْوان Zerwan، پِيژان Pijan، قَرَه گَيچان Karagetchan، مِير Mir، دِنّان (دِينان) Dinan، دِيدان Didan. هذا ما أفاده العلاّمة محمد أمين زكي في كتابه (خلاصة تاريخ الكرد وكردستان)، ووليام إيغلتون في كتابه (مدخل إلى السجّاد الكردي). ولقبيلة برازي حضور كثيف في ريف محافظة حلب، وعلى وجه خاص في مناطق السفيرة، والباب، وأعزاز، وعفرين. كما أن لها امتدادات في مدينة حماه، ومن أبرز شخصياتها حسني البرازي.
وذكر عبد الله يوركي حلاّق أن جد إبراهيم هنانو الأكبر قدم من جهات (ماردين) في جنوب شرقي تركيا منذ ثلاثمئة سنة؛ أي حوالي القرن السابع عشر، فاختار كفر تخاريم مقاماً له، وكانت تلك القرية مزرعة صغيرة فيها بعض البيوت العربية والكردية، وقد توسّع جد هنانو الأكبر في شراء الأراضي، فكثرت ذريته، وعلا اسمه.
أما فيما يتعلق بأصل تسمية (هنانو) فيذكر الأستاذ عبد الله يوركي أن الجد أضاع ابنه- وكان لا يجيـد العربية- فراح يسأل عنه كل من يراه قائلاً: (ابني هنـا)؟ فكانوا يجيبونه: (نُو)، وهي كلمة كردية تعني بالعربية ( لا )، ويُقال: إن الاسم (هنانو) جاء من هذا التركيب العربي الكردي (هنا- نو).
ولا نرى وجهاً موضوعياً لهذا التأويل، إذ كيف لا يجيد الجد العربية وهو في الوقت نفسه يسأل بالعربية: ابني هنا؟ ولنفترض أنه كان تعلّم بعض العربية، واستطاع أن يسأل قائلاً: (ابني هنا ؟)، فهذا يعني أنه كان يسأل جيرانه من العرب، لكنا نجد الجواب يأتي بالكردية (نُو) أي (لا)، وفي هذا تناقض واضح.
والصواب فيما نرى أن اسم (هنانو) هو تكريد للاسم العربي (عبد الحنان)، وهو اسم شائع بين الكرد، وكل من خالط الكرد يعرف أنهم يختصرون الأسـماء هكذا: (أحمد = أَحْمُو)، و(محمود = مَعْمُو)، و (مصطفى = مسْتُو)، و(عبد الرحمن أو عبد الله = عبدو)، وتارة يتحول (عبد الرحمن) إلى (رحمان)، ثم يفخّـم الحرف الأخير بالواو كما هو الأمر غالباً عند الكرد، فيصبح (رحمانو)، وكذلك (عبد الحنان) يصبح (حنان/ حنانو). وبما أن صوتيات اللغة الكردية لا تشتمل على حرف الحاء، فإن كلمة (حنانو) تُلفظ (هنانو). وهـذا أمر يعرفه كل من خالط الكرد وعرف خصائص اللغة الكردية وصوتياتها ولهجاتها.
هذا، وتلقّى إبراهـيم هنانو دروسه الابتدائية في حارم، ثم دخل المدرسة الثانوية ونال شـهادتها، ثم توجّه إلى الأسـتانة (إستانبول) عاصمة الدولة العثمانية، ودخل المدرسة الملكية فيها، وبعد أن حصل على إجازتها عمل موظفاً في السلك الإداري.
ولما انتهت الحرب العالمية الأولى سنة (1918 م) كان إبراهيم هنانو يشغل وظيفة قائم مقام (مدير منطقة) في أحد أقضية (دياربكر) بجنوب شرقي تركيا، فعاد إلى حلب، وانتُخب عضواً في المؤتمر السوري الذي عقـد أولى جلساته في الثالث من حزيران/يونيو سنة (1919 م)، وكان أحد الممثّلين الستة عشر الذين مثّلوا محافظة حلب في المؤتمر. وانعقد المؤتمر في مقر النادي العربي بدمشق، وكانت المهمة الأساسية للمؤتمرين هي العمل لوحـدة سوريا بمناطقها الثلاثة: الشرقية والغربية والجنوبية أي فلسطين، والمناداة بالأمير فيصل بن الشريف حسين زعيماً، وإنابته للدفاع عن استقلال سورية.
انطلاق الثورة
أدرك إبراهيم هنانو، بثاقب فكره وبعد نظره، أن الفرنسيين يماطلون، ويعملون للقضاء على استقلال سوريا. فغادر المؤتمر في مطلع تشرين الأول/أكتوبر سنة (1919 م)، وقصد مدينة إدلب، حيث اجتمع بمن جـاؤوا لملاقاته من أهل بلدته كفر تخاريم ومن حارم وجسر الشغور ومعرّة النعمان وبعض مناطق الساحل السوري، وحدّثهم أنه لم يعد مطمئناً إلى نيّات فرنسا المنتدبة على سوريا، وأن هـذه الدولة تدفع جيوشها إلى داخـل البلاد لتحتلّها كلها، وأن كل سوري أبيّ يرفض ذلك ولا يرضى إلا بالاستقلال، وأن الاستقلال يؤخذ ولا يعطى، وعلى السوريين أن يتصدوا للغزاة، فالموت في سبيل الوطن شرف وشهادة، والحياة في ظل الأجنبي عار ومذلة.
ثم أخبر هنانو المجتمعين أنه سيتعاون مع الزعيم التركي مصطفى كمال (أتاتورك) في محاربة الفرنسيين الذين وعدوا أن يجعلوا منطقة كيليكيا وطناً قومياً للأرمن، وأن القائد التركي سيزوّده بكل ما يحتاج إليه من أسلحة وأعتدة وذخائر، ولم يبق أمام السوريين إلا البدء بالكفاح ضد الاستعمار الفرنسي.
وبعد أن تداول المجتمعون الآراء، وتناولوا الأمور بالدراسة من جميع النواحي، قرّروا إعلان الثورة على الفرنسيين، الذين كانوا يحتلون وقتئذ المنطقة الغربية من الوطن السوري، أي الساحل الممتد من رأس الناقورة إلى خليج الإسكندرونة.
وشرع هنانو يجمع الرجال، ويدرّبهم على القتال، مستعيناً بضباط متخرجين من المدارس الحربية، وراح هو ورجاله يشنّون هجماتهم بإحكام على الجنود الفرنسيين، ويحولون بينهم وبين المواقع التي يريدون الوصول إليها، ويتعرضون لقوافلهم المحمّلة بالذخيرة والغـذاء ويستولون عليها، بعد أن يقتلوا العـديد من أفرادها، إنهم كانوا يكمنون خلف الصخور والأشجار والأحراج الكثيفة، حتى إذا صار الجنود الفرنسيون على مقربة منهم انقضّوا عليهم كالصواعق، وفتكوا بهم فتكاً ذريعاً، وغنموا كل ما معهم من زاد وعتاد، وتكررت هذه الحملات الموفّقة مراراً في جبل الزاوية، وجبل الأربعـين القريب من أريحا، وفي منطقة الحفّة التابعة لمحافظة اللاذقية.
وقد آزر الثورة كثيرون من أفراد أسرة هنانو بالأراوح والأموال، وفي طليعتهم ولده طارق، فقد خاض مظاهرة ضد الفرنسيين في حلب، فضُرب وأوذي، فأصيب في عينه، وبارتجاج في دماغه، فأُدخل في (العصفورية) ببيروت. وزكية هنانو شقيقة الزعيم، وأخواه عقيل وحقّي، وعدد وافر من أهله وأنسبائه من أمثـال: عزّت هنانو، وعاطف هنانو، وعلي هنانو، وخالد نامق بك.
وهناك أبطال صناديد، تركوا بصماتهم واضحة المعالم، جلية الخطوط في ثورة هنانو منهم: إبراهيم عُوَيد، والشيخ يوسف السَّعْدون، وهو كردي أيضاً من عشيرة (دِيدان) أحـد فروع اتحاد عشائر بَرازي، وقـد أكد لي ذلك شيوخ عائلة (قُول آغاسي) في قرية (غُوز) الواقعـة شمالي حلب، والتابعة لمنطقة إعزاز، وهذه العائلة هي زعيمة عشيرة ديدان بمحافظة حلب، وذكروا لي أن الشيخ يوسف زار والدهم (حيدر آغا قول آغاسي) أكثر من مرة.
وكان يؤازر الزعيم هنانو في حلب ويمدّه بالمال والسلاح والرجال كل من: فاتح المرعشي، والشيخ طاهر الرفاعي، والشيخ رضا الرفاعي، وسعد الله الجابري، والحاج نجيب باقي، والحاج عبد الرحمن كدرو.
مقاتل شهم .. وقائد محنّك
حارت فرنسا وهي تتلقّى الضربة إثر الضربة على أيدي رجال هنانو، فهي ليست أمام جيش نظامي وجهاً لوجه، ولكنها تقاوم جماعات من الجن ينقضون على كتائبها انقضاض الصواعق من رؤوس الجبال، ويمطرونها بوابل من نيران بنادقهم، وفي طرفة عين يتوارون كالأشباح في أعماق الغابات وبطون الأودية.
وذات يوم وصل إلى مقر هنانو بعض الضباط الفرنسيين وعلى رأسهم الكولونيل فوان، فاستقبلهم الزعيم مرحباً بهم، وبعد أن قدّم لهم القهوة، سألهم عن سبب زيارتهم، فأجابه الكولونيل فوان: لقد أرسلنا الجنرال جوبو (قائد الحملة الفرنسية ضد ثورة الشمال)، ليتفق معك على عقد هدنة وتبادل الأسرى، وهو يرجو أن تقابله في مقرّ قيادته، وكي لا تظن أن هناك مكيدة، أترك هنا جميع هؤلاء الضباط ذوي الرتب العالية رهينة لدى رجالك، حتى إذا عدتَ تركتهم.
فأطرق أبو طارق ملياً، ثم نظر إلى وجه الكولونيل فوان، وقال له:
- أتقسم لي بشرفك العسكري أن ليس في الأمر مكيـدة؟
فأجابه الكولونيل على الفور:
- أقسم بشرفي العسكري وبشرف فرنسا، أنه ليس في الأمر مكيدة.
فابتسم هنانو ابتسامة الرضا، وقال:
- أنا واثق بشرف فرنسا، فلا حاجة للرهائن، وليعد رجالك معك.
وفي الحال امتطى هنانو صهوة جواده، وتبعه الكولونيل فوان وضباطه، حتى وصلوا إلى مركز قيادة الجنرال جوبو، فرحّب به الجنرال، ودعاه إلى تناول طعام الغداء. ثم جلسا يتفاوضان في قضية الهدنة وتبادل الأسرى، وقد صرّح الجنرال جوبو بعد ذلك أن هنانو ليس بالرجل العـادي، إنه كتلة ملتهبة من ذكاء ونشاط كما أنه صاحب معرفة واسعة.
وقد أحسن هنانو تنظيم عملياته الحربية، فوزع رجاله في ثلاث مناطق:
- المنطقة الأولى: قاد العمليات الحربية فيها الشيخ يوسف السَّعدون، وكان يجسّد فكر الثورة في الشمال، وينطلق في هجماته من بلدة سَلْقِين مكان إقامته.
- المنطقة الثانية: تولّى قيادتها نجيب عويد القائد الحربي لقوات هنانو، وكان القطاع الموكل إليه يمتد من بحيرة العمق في الشمال، حتى حدود إدلب وجسر الشغور المحاذية لقوات المناضل الشيخ صالح العلي في الجنوب.
وإبراهيم هنانو من أبرز القادة الذين ساهموا في قيادة النضال ضد الاستعمار الفرنسي، وكان قائد الثورة السورية في الشمال، وهو من المجاهدين الشجعان، وهبه الله قوة الجَنان، وطلاقة اللسان، ومحبة للحرية لا حدود لها.
فمن هو هذا القائد المقاتل؟!
أصله .. ونشأته
ولد إبراهيم بن سليمان آغا بن محمد هنـانو سنة (1869 م) في قرية (كَفْر تَخـاريم) الواقعة غربي حلب والتابعة لقضاء (حـارم)، وآل هنانو أسرة عريقة في الجاه وكرم الأصل، وثمة من نسب أسرة إبراهيم هنانو إلى عشيرة (رَشْوان) الكردية، لكن الأستاذ الشاعر عبد الله يوركي حلاّق صاحب (مجلّة الضاد) أكّد في كتابه (الثورات السورية الكبرى في ربع قرن) أن أسرة هنانو تنتمي إلى قبيلة بَرازي Berazieh الكردية؛ وهذا هو الأرجح، نظراً لكثرة انتشار الأسر المنتمية إلى هذه القبيلة في شمالي سوريا.
وقبيلة بَرازي كثيرة العدد، تتوزّع في جنوب شرقي تركيا وفي شمالي سوريا، وهي في الأصل مؤلفة من اتحاد عشائر، وكان تعدادها في بدايات القرن العشرين حوالي عشرة آلاف خيمة (عائلة)، ويضم هذا الاتحاد عشائر: كَيتْكان Keytkan، شَيْخان Shykhan، أُوكْيان Okian، شَدادان Shadadan، على دِنْلي Alidinli، مَعافان Maafan، زَرْوان Zerwan، پِيژان Pijan، قَرَه گَيچان Karagetchan، مِير Mir، دِنّان (دِينان) Dinan، دِيدان Didan. هذا ما أفاده العلاّمة محمد أمين زكي في كتابه (خلاصة تاريخ الكرد وكردستان)، ووليام إيغلتون في كتابه (مدخل إلى السجّاد الكردي). ولقبيلة برازي حضور كثيف في ريف محافظة حلب، وعلى وجه خاص في مناطق السفيرة، والباب، وأعزاز، وعفرين. كما أن لها امتدادات في مدينة حماه، ومن أبرز شخصياتها حسني البرازي.
وذكر عبد الله يوركي حلاّق أن جد إبراهيم هنانو الأكبر قدم من جهات (ماردين) في جنوب شرقي تركيا منذ ثلاثمئة سنة؛ أي حوالي القرن السابع عشر، فاختار كفر تخاريم مقاماً له، وكانت تلك القرية مزرعة صغيرة فيها بعض البيوت العربية والكردية، وقد توسّع جد هنانو الأكبر في شراء الأراضي، فكثرت ذريته، وعلا اسمه.
أما فيما يتعلق بأصل تسمية (هنانو) فيذكر الأستاذ عبد الله يوركي أن الجد أضاع ابنه- وكان لا يجيـد العربية- فراح يسأل عنه كل من يراه قائلاً: (ابني هنـا)؟ فكانوا يجيبونه: (نُو)، وهي كلمة كردية تعني بالعربية ( لا )، ويُقال: إن الاسم (هنانو) جاء من هذا التركيب العربي الكردي (هنا- نو).
ولا نرى وجهاً موضوعياً لهذا التأويل، إذ كيف لا يجيد الجد العربية وهو في الوقت نفسه يسأل بالعربية: ابني هنا؟ ولنفترض أنه كان تعلّم بعض العربية، واستطاع أن يسأل قائلاً: (ابني هنا ؟)، فهذا يعني أنه كان يسأل جيرانه من العرب، لكنا نجد الجواب يأتي بالكردية (نُو) أي (لا)، وفي هذا تناقض واضح.
والصواب فيما نرى أن اسم (هنانو) هو تكريد للاسم العربي (عبد الحنان)، وهو اسم شائع بين الكرد، وكل من خالط الكرد يعرف أنهم يختصرون الأسـماء هكذا: (أحمد = أَحْمُو)، و(محمود = مَعْمُو)، و (مصطفى = مسْتُو)، و(عبد الرحمن أو عبد الله = عبدو)، وتارة يتحول (عبد الرحمن) إلى (رحمان)، ثم يفخّـم الحرف الأخير بالواو كما هو الأمر غالباً عند الكرد، فيصبح (رحمانو)، وكذلك (عبد الحنان) يصبح (حنان/ حنانو). وبما أن صوتيات اللغة الكردية لا تشتمل على حرف الحاء، فإن كلمة (حنانو) تُلفظ (هنانو). وهـذا أمر يعرفه كل من خالط الكرد وعرف خصائص اللغة الكردية وصوتياتها ولهجاتها.
هذا، وتلقّى إبراهـيم هنانو دروسه الابتدائية في حارم، ثم دخل المدرسة الثانوية ونال شـهادتها، ثم توجّه إلى الأسـتانة (إستانبول) عاصمة الدولة العثمانية، ودخل المدرسة الملكية فيها، وبعد أن حصل على إجازتها عمل موظفاً في السلك الإداري.
ولما انتهت الحرب العالمية الأولى سنة (1918 م) كان إبراهيم هنانو يشغل وظيفة قائم مقام (مدير منطقة) في أحد أقضية (دياربكر) بجنوب شرقي تركيا، فعاد إلى حلب، وانتُخب عضواً في المؤتمر السوري الذي عقـد أولى جلساته في الثالث من حزيران/يونيو سنة (1919 م)، وكان أحد الممثّلين الستة عشر الذين مثّلوا محافظة حلب في المؤتمر. وانعقد المؤتمر في مقر النادي العربي بدمشق، وكانت المهمة الأساسية للمؤتمرين هي العمل لوحـدة سوريا بمناطقها الثلاثة: الشرقية والغربية والجنوبية أي فلسطين، والمناداة بالأمير فيصل بن الشريف حسين زعيماً، وإنابته للدفاع عن استقلال سورية.
انطلاق الثورة
أدرك إبراهيم هنانو، بثاقب فكره وبعد نظره، أن الفرنسيين يماطلون، ويعملون للقضاء على استقلال سوريا. فغادر المؤتمر في مطلع تشرين الأول/أكتوبر سنة (1919 م)، وقصد مدينة إدلب، حيث اجتمع بمن جـاؤوا لملاقاته من أهل بلدته كفر تخاريم ومن حارم وجسر الشغور ومعرّة النعمان وبعض مناطق الساحل السوري، وحدّثهم أنه لم يعد مطمئناً إلى نيّات فرنسا المنتدبة على سوريا، وأن هـذه الدولة تدفع جيوشها إلى داخـل البلاد لتحتلّها كلها، وأن كل سوري أبيّ يرفض ذلك ولا يرضى إلا بالاستقلال، وأن الاستقلال يؤخذ ولا يعطى، وعلى السوريين أن يتصدوا للغزاة، فالموت في سبيل الوطن شرف وشهادة، والحياة في ظل الأجنبي عار ومذلة.
ثم أخبر هنانو المجتمعين أنه سيتعاون مع الزعيم التركي مصطفى كمال (أتاتورك) في محاربة الفرنسيين الذين وعدوا أن يجعلوا منطقة كيليكيا وطناً قومياً للأرمن، وأن القائد التركي سيزوّده بكل ما يحتاج إليه من أسلحة وأعتدة وذخائر، ولم يبق أمام السوريين إلا البدء بالكفاح ضد الاستعمار الفرنسي.
وبعد أن تداول المجتمعون الآراء، وتناولوا الأمور بالدراسة من جميع النواحي، قرّروا إعلان الثورة على الفرنسيين، الذين كانوا يحتلون وقتئذ المنطقة الغربية من الوطن السوري، أي الساحل الممتد من رأس الناقورة إلى خليج الإسكندرونة.
وشرع هنانو يجمع الرجال، ويدرّبهم على القتال، مستعيناً بضباط متخرجين من المدارس الحربية، وراح هو ورجاله يشنّون هجماتهم بإحكام على الجنود الفرنسيين، ويحولون بينهم وبين المواقع التي يريدون الوصول إليها، ويتعرضون لقوافلهم المحمّلة بالذخيرة والغـذاء ويستولون عليها، بعد أن يقتلوا العـديد من أفرادها، إنهم كانوا يكمنون خلف الصخور والأشجار والأحراج الكثيفة، حتى إذا صار الجنود الفرنسيون على مقربة منهم انقضّوا عليهم كالصواعق، وفتكوا بهم فتكاً ذريعاً، وغنموا كل ما معهم من زاد وعتاد، وتكررت هذه الحملات الموفّقة مراراً في جبل الزاوية، وجبل الأربعـين القريب من أريحا، وفي منطقة الحفّة التابعة لمحافظة اللاذقية.
وقد آزر الثورة كثيرون من أفراد أسرة هنانو بالأراوح والأموال، وفي طليعتهم ولده طارق، فقد خاض مظاهرة ضد الفرنسيين في حلب، فضُرب وأوذي، فأصيب في عينه، وبارتجاج في دماغه، فأُدخل في (العصفورية) ببيروت. وزكية هنانو شقيقة الزعيم، وأخواه عقيل وحقّي، وعدد وافر من أهله وأنسبائه من أمثـال: عزّت هنانو، وعاطف هنانو، وعلي هنانو، وخالد نامق بك.
وهناك أبطال صناديد، تركوا بصماتهم واضحة المعالم، جلية الخطوط في ثورة هنانو منهم: إبراهيم عُوَيد، والشيخ يوسف السَّعْدون، وهو كردي أيضاً من عشيرة (دِيدان) أحـد فروع اتحاد عشائر بَرازي، وقـد أكد لي ذلك شيوخ عائلة (قُول آغاسي) في قرية (غُوز) الواقعـة شمالي حلب، والتابعة لمنطقة إعزاز، وهذه العائلة هي زعيمة عشيرة ديدان بمحافظة حلب، وذكروا لي أن الشيخ يوسف زار والدهم (حيدر آغا قول آغاسي) أكثر من مرة.
وكان يؤازر الزعيم هنانو في حلب ويمدّه بالمال والسلاح والرجال كل من: فاتح المرعشي، والشيخ طاهر الرفاعي، والشيخ رضا الرفاعي، وسعد الله الجابري، والحاج نجيب باقي، والحاج عبد الرحمن كدرو.
مقاتل شهم .. وقائد محنّك
حارت فرنسا وهي تتلقّى الضربة إثر الضربة على أيدي رجال هنانو، فهي ليست أمام جيش نظامي وجهاً لوجه، ولكنها تقاوم جماعات من الجن ينقضون على كتائبها انقضاض الصواعق من رؤوس الجبال، ويمطرونها بوابل من نيران بنادقهم، وفي طرفة عين يتوارون كالأشباح في أعماق الغابات وبطون الأودية.
وذات يوم وصل إلى مقر هنانو بعض الضباط الفرنسيين وعلى رأسهم الكولونيل فوان، فاستقبلهم الزعيم مرحباً بهم، وبعد أن قدّم لهم القهوة، سألهم عن سبب زيارتهم، فأجابه الكولونيل فوان: لقد أرسلنا الجنرال جوبو (قائد الحملة الفرنسية ضد ثورة الشمال)، ليتفق معك على عقد هدنة وتبادل الأسرى، وهو يرجو أن تقابله في مقرّ قيادته، وكي لا تظن أن هناك مكيدة، أترك هنا جميع هؤلاء الضباط ذوي الرتب العالية رهينة لدى رجالك، حتى إذا عدتَ تركتهم.
فأطرق أبو طارق ملياً، ثم نظر إلى وجه الكولونيل فوان، وقال له:
- أتقسم لي بشرفك العسكري أن ليس في الأمر مكيـدة؟
فأجابه الكولونيل على الفور:
- أقسم بشرفي العسكري وبشرف فرنسا، أنه ليس في الأمر مكيدة.
فابتسم هنانو ابتسامة الرضا، وقال:
- أنا واثق بشرف فرنسا، فلا حاجة للرهائن، وليعد رجالك معك.
وفي الحال امتطى هنانو صهوة جواده، وتبعه الكولونيل فوان وضباطه، حتى وصلوا إلى مركز قيادة الجنرال جوبو، فرحّب به الجنرال، ودعاه إلى تناول طعام الغداء. ثم جلسا يتفاوضان في قضية الهدنة وتبادل الأسرى، وقد صرّح الجنرال جوبو بعد ذلك أن هنانو ليس بالرجل العـادي، إنه كتلة ملتهبة من ذكاء ونشاط كما أنه صاحب معرفة واسعة.
وقد أحسن هنانو تنظيم عملياته الحربية، فوزع رجاله في ثلاث مناطق:
- المنطقة الأولى: قاد العمليات الحربية فيها الشيخ يوسف السَّعدون، وكان يجسّد فكر الثورة في الشمال، وينطلق في هجماته من بلدة سَلْقِين مكان إقامته.
- المنطقة الثانية: تولّى قيادتها نجيب عويد القائد الحربي لقوات هنانو، وكان القطاع الموكل إليه يمتد من بحيرة العمق في الشمال، حتى حدود إدلب وجسر الشغور المحاذية لقوات المناضل الشيخ صالح العلي في الجنوب.