أمر غريب!
لم يكن المجتمع الكردي على الدوام سليل الصمت وأسير الضياع.
ولم يكن على الدوام خارج التاريخ كما يحلو للبعض أن يصوّر.
ولم تكن كردستان على الدوام أرض الجهل والفظاظة كما صوّرها آخرون.
كانت كردستان، كلما سنحت الظروف، موطن العلم والعلماء والمفكرين.
وقامت فيها، على فترات مختلفة، ممالك ودول وإمارات مزدهرة.
وعجيب أمر كثيرين من المؤرخين المحدثين، إنك تجدهم يغربلون التاريخ الإسلامي وينخلونه، ويذكرون تفاصيل إمارات ودول مختلفة قامت هنا وهناك في أرجاء العالم الإسلامي القديم، أما الدول والإمارات التي قامت في كردستان فيضربون عنها صفحاً، ولا يشيرون إليها لا من قريب ولا من بعيد.
وها أنا ذا آخذ كتاب (تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي) الجزء الثالث، للمؤرخ القدير الدكتور حسن إبراهيم حسن، فأجده قد قام بمسح سياسي دقيق للعصر العباسي، في الفترة الواقعة بين عامي (232 – 447 هـ / 847 هـ / 1055 م)، وأفرد (الباب الرابع) لذكر (الدول المستقلة)، حسب تسميته هو، وأجده يذكر الدولة الغزنوية في أقصى شرقي العالم الإسلامي، والدولة الصفارية، والدولة السامانية، في بلاد فارس، والدولة البُوَيهية في بلاد فارس والعراق، والدولة الحَمْدانية في شمالي سوريا، والدولة الطُّولونية في مصر، والدولة الفاطمية في شمالي إفريقيا وفي مصر، ودولة الأغالبة في تونس، ودولة الأدارسة في مراكش، والدولة الأموية في الأندلس.
وأُبدئ النظر في الفهرس وأعيده، فلا أجد شيئاً عن الدول الكردية التي قامت في تلك الفترة، وفيما يلي أسماؤها: الحكومة الرََّواديـة في أذربيجان (230 - 618 هـ)، والحكومة السالارية في أذربيجان (300 - 420 هـ)، والحكومة الحَسْنَويهية البرزيكانية في هَمَذان (330 - 405 هـ)، والحكومة الشَّدّادية في أَرّان (340 - 465 هـ) [ تقع أرّان في جمهورية أذربيجان وجمهورية جورجيا الحاليتين، ومن مدنها نَخْجوان، وتفليس، وقَرَه باغ ]، والدولة الدُّوستكية (المروانية) في كردستان الوسطى (350 - 478 هـ)، والحكومة العَنازية في حُلْوان بجنوبي كردستان (380 - 446 هـ).
وقد يقال: أتقيس هذه الإمارات والدول الكردية بالدولة الغزنوية، والدولة البويهية، والدولة الطولونية، والدولة الفاطمية، والدولة الأموية، وأنت تعلم المساحات الواسعة التي حكمتها تلك الدول، والأحداث الخطيرة التي جرت فيها؟!
وأقول: حسناً، ولماذا لا نقيس تلك الدول الكردية بكل من الدولة الصفارية، والدولة السامانية، والدولة الحمدانية، ودولة الأغالبة، ودولة الأدارسة؟! هذا مع العلم أنها لم تكن أقل شأناً، ولا أقصر عمراً، من هذه الدول.
أمر غريب حقاً أن تُرى كل (الدول المستقلة) في تاريخ الإسلام.
إلا الدول الكردية، فهي لا تُرى حتى بالميكروسكوب.
ومهما يكن فقد رأينا أن نقف عند سيرة أحد ملوك الكرد.
إنه الملك نصر الدولة أحمد بن مروان.
عهد التأسيس
وما دمنا بصدد الحديث عن الملك نصر الدولة، فلا بد لنا من رحلة إلى منتصف القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، فهو – نصر الدولة – كان ملكاً يقود دولة، وكانت تلك الدولة في البداية إمارة صغيرة، ثم نمت وتطورت، فصارت دولة ذات مكانة، وذلك هو شأن معظم الدول عبر التاريخ، إن لم يكن شأن كلها.
وتسمى هذه الدولة باسم (الدولة المروانية)، وتسمى (الدولة الدوستكية) أيضاً، وقـد نشأت سنة (372 هـ / 982 م)، وظلت قائمـة إلى سنة (478 هـ / 1086 م)، وكانت عاصمتها مدينة فارقِين (مَيّافارقِين)، وشمل نفوذها ولايات: ديار بكر، وماردين، وسِعَرْد (سيرت)، وبَدْليس، وقسماً من ولاية مُوش، إضـافة إلى قضاء أَرْجِيش من ولاية وان، وأجـزاء من ولايات: آلَزِگ ( العـزيز)، وولاية أُورفـا (الرُّهـا)، ونصيين وأطراف الموصل.
ويذكر الفارقي في تاريخه أن اسم مؤسس تلك الدولة باد بن دُوستك الحاربختي، وهو أبو عبد الله الحسين بن دُوسْتِك، والأرجح أن (باد) لقب للرجل، ويعني بالكردية (الريح)، ويسمى (باذ) أيضاً، وكان يمتاز بالحنكة وبرجاحة العقل وكرم الطبع، وقد التفّ حوله المعجبون به، فهاجم أرجيش، وكانت أول مدينة دانت لسلطانه، وأقام علاقات ودّية مع الملك البويهي عضد الدولة، بل إنه قدّم مساعدات قيّمة للجيش البويهي لكسر شوكة الأمير أبي تغلب الحمداني.
وحينما دخل البويهيون الموصل سنة (368 هـ) جاء أبو شجاع للقاء عضد الدولة، وما إن اجتمع بالملك البويهي حتى فطن إلى أنه لن يبقي عليه، وكان ظنه صائباً؛ وذكر ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ، ج 9، ص 35) أن عضد الدولة قال بعد أن خرج باد من مجلسه: " له بأس وشدة، وفيه شر، لا يجوز الإبقاء على مثله ". وأمر بالقبض عليه، لكن كان أبو شجاع قد غادر المدينة سراً، ولحق
"
لم يكن المجتمع الكردي على الدوام سليل الصمت وأسير الضياع.
ولم يكن على الدوام خارج التاريخ كما يحلو للبعض أن يصوّر.
ولم تكن كردستان على الدوام أرض الجهل والفظاظة كما صوّرها آخرون.
كانت كردستان، كلما سنحت الظروف، موطن العلم والعلماء والمفكرين.
وقامت فيها، على فترات مختلفة، ممالك ودول وإمارات مزدهرة.
وعجيب أمر كثيرين من المؤرخين المحدثين، إنك تجدهم يغربلون التاريخ الإسلامي وينخلونه، ويذكرون تفاصيل إمارات ودول مختلفة قامت هنا وهناك في أرجاء العالم الإسلامي القديم، أما الدول والإمارات التي قامت في كردستان فيضربون عنها صفحاً، ولا يشيرون إليها لا من قريب ولا من بعيد.
وها أنا ذا آخذ كتاب (تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي) الجزء الثالث، للمؤرخ القدير الدكتور حسن إبراهيم حسن، فأجده قد قام بمسح سياسي دقيق للعصر العباسي، في الفترة الواقعة بين عامي (232 – 447 هـ / 847 هـ / 1055 م)، وأفرد (الباب الرابع) لذكر (الدول المستقلة)، حسب تسميته هو، وأجده يذكر الدولة الغزنوية في أقصى شرقي العالم الإسلامي، والدولة الصفارية، والدولة السامانية، في بلاد فارس، والدولة البُوَيهية في بلاد فارس والعراق، والدولة الحَمْدانية في شمالي سوريا، والدولة الطُّولونية في مصر، والدولة الفاطمية في شمالي إفريقيا وفي مصر، ودولة الأغالبة في تونس، ودولة الأدارسة في مراكش، والدولة الأموية في الأندلس.
وأُبدئ النظر في الفهرس وأعيده، فلا أجد شيئاً عن الدول الكردية التي قامت في تلك الفترة، وفيما يلي أسماؤها: الحكومة الرََّواديـة في أذربيجان (230 - 618 هـ)، والحكومة السالارية في أذربيجان (300 - 420 هـ)، والحكومة الحَسْنَويهية البرزيكانية في هَمَذان (330 - 405 هـ)، والحكومة الشَّدّادية في أَرّان (340 - 465 هـ) [ تقع أرّان في جمهورية أذربيجان وجمهورية جورجيا الحاليتين، ومن مدنها نَخْجوان، وتفليس، وقَرَه باغ ]، والدولة الدُّوستكية (المروانية) في كردستان الوسطى (350 - 478 هـ)، والحكومة العَنازية في حُلْوان بجنوبي كردستان (380 - 446 هـ).
وقد يقال: أتقيس هذه الإمارات والدول الكردية بالدولة الغزنوية، والدولة البويهية، والدولة الطولونية، والدولة الفاطمية، والدولة الأموية، وأنت تعلم المساحات الواسعة التي حكمتها تلك الدول، والأحداث الخطيرة التي جرت فيها؟!
وأقول: حسناً، ولماذا لا نقيس تلك الدول الكردية بكل من الدولة الصفارية، والدولة السامانية، والدولة الحمدانية، ودولة الأغالبة، ودولة الأدارسة؟! هذا مع العلم أنها لم تكن أقل شأناً، ولا أقصر عمراً، من هذه الدول.
أمر غريب حقاً أن تُرى كل (الدول المستقلة) في تاريخ الإسلام.
إلا الدول الكردية، فهي لا تُرى حتى بالميكروسكوب.
ومهما يكن فقد رأينا أن نقف عند سيرة أحد ملوك الكرد.
إنه الملك نصر الدولة أحمد بن مروان.
عهد التأسيس
وما دمنا بصدد الحديث عن الملك نصر الدولة، فلا بد لنا من رحلة إلى منتصف القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، فهو – نصر الدولة – كان ملكاً يقود دولة، وكانت تلك الدولة في البداية إمارة صغيرة، ثم نمت وتطورت، فصارت دولة ذات مكانة، وذلك هو شأن معظم الدول عبر التاريخ، إن لم يكن شأن كلها.
وتسمى هذه الدولة باسم (الدولة المروانية)، وتسمى (الدولة الدوستكية) أيضاً، وقـد نشأت سنة (372 هـ / 982 م)، وظلت قائمـة إلى سنة (478 هـ / 1086 م)، وكانت عاصمتها مدينة فارقِين (مَيّافارقِين)، وشمل نفوذها ولايات: ديار بكر، وماردين، وسِعَرْد (سيرت)، وبَدْليس، وقسماً من ولاية مُوش، إضـافة إلى قضاء أَرْجِيش من ولاية وان، وأجـزاء من ولايات: آلَزِگ ( العـزيز)، وولاية أُورفـا (الرُّهـا)، ونصيين وأطراف الموصل.
ويذكر الفارقي في تاريخه أن اسم مؤسس تلك الدولة باد بن دُوستك الحاربختي، وهو أبو عبد الله الحسين بن دُوسْتِك، والأرجح أن (باد) لقب للرجل، ويعني بالكردية (الريح)، ويسمى (باذ) أيضاً، وكان يمتاز بالحنكة وبرجاحة العقل وكرم الطبع، وقد التفّ حوله المعجبون به، فهاجم أرجيش، وكانت أول مدينة دانت لسلطانه، وأقام علاقات ودّية مع الملك البويهي عضد الدولة، بل إنه قدّم مساعدات قيّمة للجيش البويهي لكسر شوكة الأمير أبي تغلب الحمداني.
وحينما دخل البويهيون الموصل سنة (368 هـ) جاء أبو شجاع للقاء عضد الدولة، وما إن اجتمع بالملك البويهي حتى فطن إلى أنه لن يبقي عليه، وكان ظنه صائباً؛ وذكر ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ، ج 9، ص 35) أن عضد الدولة قال بعد أن خرج باد من مجلسه: " له بأس وشدة، وفيه شر، لا يجوز الإبقاء على مثله ". وأمر بالقبض عليه، لكن كان أبو شجاع قد غادر المدينة سراً، ولحق
"